اليوم الأحد، أكره يوم الأحد، تحتشد السحب كعادتها، منتظرة ذهابي للعمل فى المساء، أهبط درجات السلم العتيق, وكان درجه المكسور ينذرنى من شؤم فخ ساسقط فيه حتماً وتنكسر رقبتى، اخرج من باب العمارة التي اسكن بها منذ كنت طفلا واراها تنتظرني، السحب الرمادية تخبى شمس الغروب، كأنها تقول: لا جمال لك اليوم، اليوم الأحد انت تعلم القواعد.
هبط قرص الشمس بطيئا وأظلمت الحارات وانا اترنح بين الارصفة المكسورة، تلتوي قدماي هنا و هناك وأرى قاطني الدكاكين حولي ينظروني، يعرفوني منذ كنت ابن الرابعة، رفع عم سيد يده تحية لي بعد أن دفس سيجارته بين شفتيه، لا يتركها أبدا عم سيد، بالرغم من أنه يملك دكان الصابون هذا منذ عقود والذي أصبح دكانا للصابون و الحلوى وبعض الحبال، لا أعرف لم الحبال ،فصار دكان لا تعرف ماهو بالتحديد، بالكاد يكفيه قوت يومه، لا أعلم من أين يأتي بثمن الدخان، لكنه هنا على أية حال يبتسم بطرف شفتيه ويده فى الهواء، رفعت يدي و اومأت تحية له، ثم التوت قدماي تحتي مجددا، ستكون هذه الحارة سبب فى فقداني قدماي، أكاد أقسم على هذا.
أتخذت طريقي المعتاد إلى محطة المترو، كانت مظلمة قليلا، لم تنل تلك المحطة نصيبا من الإهتمام، انكسرت اضاءتها واحدة تلو الأخرى على مر الشهور ولم يهتم أحدهم، بالكاد نرى احدنا الاخر هنا منتظرين القطار القادم، أي لحظة الآن، أي دقيقة، او دقائق، ننتظر. أنا وأخرين، سيدة فى منتصف العمر وطفلها يقارب الخمس سنوات، رجل خمسيني فى بذلة رمادية تذكرني ببذلة أبى رحمه الله، شاب عشريني شعره يلمع فى ضوء القمر ويحمل فى يده حفنة من الزهور، و شحاذ على أول الرصيف أرى يده مشغولة بترتيب ما يبيعه لرواد المترو أمثالنا.
أسمع صفير القطار الثقيل على القضبان الحديدية ويقف ببطء أمامي، أدلف للداخل واجلس على أقرب مقعد فارغ، القطار كالمحطة نصف مظلم كأنه هو الآخر في حالة غروب، الصمت حولي ورائحة العرق يلتصق منذ ساعة الذروة فى الهواء، اضم ساعدى لي وانتظر المحطة واحدة بعد الاخرى، عل التالية تكون محطتي، لاحظت السيدة على يساري فى نهاية الغرفة تضم طفلها لها، لم تكن تضمه كأن تحميه برد الشتاء او رائحة العرق فى الهواء بل كأن تحميه من شيء ما تخافه هي، رأيت عينيها زائغتين، تنظر لشيء ما يمينها ثم تنظر للأرض أمامها، تهتز قليلا وارى شفتيها تهتزان كأنما تحدث طفلها، او نفسها، كانت تخشى شيء ما، تخافه، وتغطى عينا طفلها حتى لا يخاف هو الآخر، نظرت الى زاوية القطار كانت فارغة، ربما تذكرت شيء ما يخيفها، ربما حياتها ليست على مايرام او ربما طفلها مريض بشيء ما وهى تشعر بالأسى له، لا أعلم، ليست مشكلتي على كل حال، لدي من آلام الحياة ما يكفي، وعلى كل حال هذه محطتي، خرجت من القطار إلى طريقي للشركة المصرية للبلاستيك، مسافة عشرة دقائق من المحطة، اعتد مشيها وحيدا، حتى ارى “مسعد” فى مكتب الأمن “مساء الخير”، “مساء النور، فى موعدك كالعادة” يرد بابتسامته الخفيفة المعتادة، “أي شيء غير معتاد اليوم؟” “لا، أحدهم فى الداخل فقط ينهى جرد مخزن ما” أجابني وهو يسحب دفتر الزوار تجاهي، “حسنا، ارسل تحياتي لنادر وقل له المرة القادمة سأجلب له المارشيملو”، رد بإبتسامة “انت تفسد هذا الولد، ثم أن هذا الشيء سيدمر مرتبك يا أخي”، “ومالك ومالي يا أخي، انا متبرع بمرتبي للمارشيملو”، “سأرسل قرارك هذا للإدارة إذن، يمكنهم اعطاءك نصف مرتبك مارشميلو ويوفروا عليك المشاوير للسوبر ماركت”. اشرت له أن يذهب، والتقطت اللاسلكي من على المكتب وقربته من وجهي، “أمن البوابة لأمن المبنى”، “أمن المبنى معك سليم”، “سليم مساء الفل، هنا احمد الطويل”، “وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا أحمد، أنا هنا إن احتجت اي شيء”، نظرت لمسعد نظرة “هل ترى؟"، “شكرا جزيلا يا اخ سليم”.
عدت احدث سليم “لا يفوت مناسبة إلا ويعلمني آداب الحديث، أقول له مساء الفل يرد بالسلام”، “أنت المخطئ وتعلم ذلك، وتعلمه هو، حدث كل بما يحبه يا أحمد”، نظرت له بلوم، فرفع يده واتجه للباب “سأغادر الأن، زوجتي ونادر فى انتظاري سنذهب لحماتي اليوم ولا اريد ان اتأخر عليها”، “سلام يا مسعد”. اتجه مسعد لجانب السور حيث دراجته البخارية المتهالكة، اقسم انها فى يوم ما ستنقسم قطعتين او ثلاث من قدمها، لا أعلم حتى من أين اشتراها، لم اعد ارى مثلها في أي مكان.
رفعت هاتفي المحمول اتصفح احد الشبكات الإجتماعية كعادتي، أمامي ساعات هنا، لا شيء يحدث عادة، بغض النظر عن تلك المرة التي تنمر مجموعة من الشباب علي بسياراتهم الفارهة، كانت نصف ساعة من الاضاءة المبهرة، لا اعلم الفائدة التي عادت عليهم لكنهم كانوا يضحكون ويتصرفون ببلاهة، ربما أحد تلك المخدرات التي يتعاطاها البعض، وناهينا أيضا عن تلك المرة الأخرى التي طلبت تلك الحسناء حمايتها من اللص الذى يجرى خلفها، فقط لأعلم بعدها انهم عصابة تعمل معا، لم يحميني غير ذلك السلاح الناري الذي نحفظه في الخزينة الصغيرة فى ركن الغرفة، عملي إما ممل كالموت أو مثير كذبحة صدرية، لا يوجد وسط ها هنا.
مرت ساعة والثانية والثالثة، كانت حوالي العاشرة مساء الأن، هدوء لا يقطعه سوء صوت بعض الحشرات التي تقطن الحشائش حولي، حينها سمعت صوت “سليم” فى اللاسلكي، مذعور كطفل، كان يصرخ “أحمد تعال بسرعة”، كررها مرتين قبل أن أقاطعه فى الثالثة: “ماذا، ما الأمر؟ لم الذعر؟"، لم يرد علي “تعال حالا، الآن، يوجد احدهم هنا”.
حملت السلاح من الخزينة بأسرع ما يمكنني واتجهت للباب، نال الكرسي الخشبي من جانبي، وألمني لكن تركيزي كان على ذلك الذعر فى صوته، حين تسمع احدهم يصرخ من الرعب والخوف تحمل نبراته ذلك الشعور البدائي، شعور أن كيانه مهدد، أنه ضعيف ويطلب أحدهم لحمايته، تحمل داخلها مزيج من الانكسار لفشله فى حماية ذاته مع الخوف من فقدانه حياته، مزيج غريب ينتقل لك الإحساس بمجرد سماع الصوت فى اللاسلكي، اتجهت جريا للمبنى ورأيته خلف مكتبه فى مواجهة الباب، ارتقيت السلم المؤدى لباب المبنى وعبرت الباب ناحيته انظر يمينا ويسارا عن ذلك الدخيل لا أراه، اقتربت منه، عيناه على زاوية المدخل المظلمة والفارغة، يداه تحمى صدره وتهتز رأسه كأنه يرى الشيطان، أمسكت بكتفيه، لكنه لم يتحرك “سليم ما بك؟ لا أحد هنا، أين ذهب؟"، سليم وعيناه على الزاوية “لا أعلم، هناك، اشهد ان لا اله الا الله وأن محمد رسول الله”، بفراغ صبر “ماذا تعنى لا تعلم وهناك، لا أحد هناك”، أشرت للزاوية الفارغة، نظر سليم إلى، انكمش أكثر وهو يقول إلى “هناك…هناك…هناك” ثم ظل يردد الشهادة وآية الكرسي وهو ينكمش أكثر في الزاوية وينهار للأرض، ينظر للأرض ثم للزاوية المظلمة ثم للأرض، اتجهت لمفتاح النور لأضيء ذلك الركن، حركت المفتاح ليغمر النور كل أركان المدخل، زاوية فارغة كما كانت، ياترى ماذا رأى سليم ليصيبه كل هذا الهلع؟ ثلاثيني اصلع يعمل طوال عمره فى الأمن لم فقد شعوره بهذا الشكل؟ اقتربت منه ورأيته تقوقع على نفسه فى الركن خلف المكتب، امسكت بكفيه ابعدهم عن وجهه المبلل بدموعه، رفع رأسه إلى وهو ينتحب و يرتعش، وينظر للركن إياه، تغيرت نظرته لتوحي بمفاجأته بالفراغ الذي كان يرعبه، جذبته ليقف ويجلس على الكرسي، بصوت يملؤه الانكسار “شكرا يا أحمد، لا أعلم ماذا حدث لي، كان أحدهم هنا اقسم بالله”، ربت على كتفه “لا تقلق يبدو أن مصاعب الحياة اتت على اعصابك”، أسند رأسه على كفيه “الحمد لله على كل شيء، أصعب شتاء مر علينا، لا أملك ثمن الملابس الجديدة و زيادة الأسعار فى كل ش-"، قطع كلامه وهو ينظر لقدميه داخل المكتب تحته، تغيرت نظرته لأبشع نظرة رعب رأيتها فى حياتي، انتفض وأسقط الكرسي خلفه وهو يبتعد عن المكتب وعيناه مثبتتان على فراغ المكتب المظلم حيث كانت قدماه، واصحبها بأعلى صرخة هلع ممكن ان تخرج من حنجرة أدمى، وهو يقف خلفي وأمسك بكتفي يصرخ ويرتعش، كأن روحه نفسها تتألم، ترك كتفي واستند على الحائط خلفي وانهار تماما وارتخت عينيه وجسده كآلة قطع عنها الكهرباء، انقبضت معدتي وامعائي مع سقطته، رفعت هاتفي لأطلب الإسعاف، ومكالمة اخرى لرئيسي أخبره بما يحدث، هو يوم أسود أعرف ذلك، اشعره بداخلي.
دلفت إلى داخل القهوة العتيقة وسط البلد، يطلق عليها صاحبها المعلم “مختار” اسم “كافيه” وكأن هذا يكفى ليخبئ الصدأ فى كراسيها أو العطن فى خشب مناضدها أو البقع الداكنة أعلى حوائطها الخضراء، هي المكان الوحيد الذي أشعر أنني جزء منه، منذ كان أبى يصحبني معه هنا، فى نفس ذات الكرسي في نفس الركن البعيد عن مدخلها، حتى أن كل شخص هنا يعرفني اسما وإن كان محدثا يعرفني شكلا، رحب بي القهوجي ومسح المنضدة جانبي ببطء مريض، نظرت لعينه الواحدة التي يرمقني بها “قهوتي، دوبل اليوم”، “عينيا يا استاذ احمد”، اشحت بنظري “تسلم”، مسحت بعيني القهوة، هناك فى الركن على اليمين الأسطى محمد، أتى من الشرقية بعد أن باع الفدان الذى تركه له والده بعد وفاته واشترى السيارة الأجرة التي يعمل عليها الآن، تزوج وانجب وهما الآن يدرسان شيئا ما لا اعرفه فى مكان ما ذو الثلاثة احرف الانجليزية، أراه كل يوم، إلى يساره “صدام” أسماه ابيه تيمنا بصدام حسين، ولد في العراق حيث كان يعمل أبيه، ثم هرب لمصر، نعتبره مصري اكثر من عراقي بلهجته التي لا تفرقها عن أي مصري، وديع ومحبوب، لكنه لديه تلك العادة فى بيع الهيروين لمرتادي القهوة، عادة قميئة اعلم، لكن الناس تحبه أو ربما تخشاه، ربما تخشى اثار ذلك الجرح تحت ركن خده الايسر او نظرته الحادة؟ لكنه وديع وانا اتجنب تلاقى اعيننا فى شتى الفرص على كل حال، هناك ذلك الشخص الذى لا اعرفه، واخرين ربما جدد هنا، هناك دائما الأستاذ سراج الدين الشاعر، هو مدرس لغة عربية لكنه يصف نفسه بأنه شاعر، يعمل فى مدرسة الطالبية الثانوية بنات نهارا ويقرض الشعر لنا ليلا على القهوة، هناك من يقصده من الشباب المتحمس ليسمع شعره، أراه الآن يجلس وحده وكأن أحدا عزيزا توفى له، وهناك أيضا أرى فى الخارج بجانب الباب يجلس الضابط مصيلحي، هو مخبر فى الأمن الوطني لكننا رقيناه لدرجة ضابط، فهو منا وعلينا، وطالما صدام يدفع ما عليه، مصيلحى يلزم باب القهوة، علاقة قوية تربطهما، علاقة المال. على كل حال هناك أناس أكثر من أن يسعني الوقت لوصفهم، وقهوتي قادمة على يد “سعد” القهوجي، “قهوتك يا استاذ احمد، دوبل زي ماطلبت”، “تشكر”، “تأمر بأي شيء؟"، “لا تمام، حبيبي”، رفعت القهوة لشفتي ثم تذكرت، أمسكت بطرف كمه قبل ان يحوم لمكان أخر، “سعد، عم سراج، مابه؟” “مابه يا استاذ أحمد؟"، “يبدو حزين اليوم، وفاة؟” “لا أعلم، أسأله هو، أستأذنك، المعلم يرمقني، انت تعرفه”، “تمام، تسلم” أطلقت يده ليعود يطفوا هنا و هناك يعرف طلبات هذا و يقدم طلبات هذا ويصرخ بالطلبات الجديدة.
حملت قهوتي، وخطوت ببطء لعم سراج الشاعر، “عم سراج” “أهلا يا أحمد، تفضل” قالها ببطء لا اعتاده، وعاد ينظر لكفيه، “ابك شيء؟ أهناك ما يحزنك اليوم؟” رفع عينه بسرعة ونظر خلف كتفى ثم اشاح بعينيه بسرعة لكفيه، “كل على مايرام يا أحمد، أنت تعلم، الحياة صارت أصعب”، “نعم نعم” هززت رأسي في أسى، “أهناك ما يمكن أن أساعد به؟ أنت تعلم أنا كابنك”، لم يحرك عينه كأن هناك ما يقلقه في كفيه لا يريد أن يشيح بنظره عنه “أشكرك يا بنى، كوالدك دائما، تذكرني به أتعرف ذلك؟” ابتسمت “الله يرحمه”، طأطأ رأسه أكثر “الله يرحمه”، أطلت النظر لخارج القهوة، السيارات والبشر فى الخارج يمشون كأن الوقت أسرع في خارج القهوة عن داخلها، يقدمون قدم على الأخرى متحمسين كأن هناك ماهو هام فى الحياة اكثر من هذة القهوة، لكن الناس تبدو ابطأ من المعتاد اليوم، كأن هناك ثقل ما فى أقدامهم، جباهم مطأطأ عن المعتاد، ارى ذلك الشخص يحمل كيس العشاء لعائلته وهو ينظر لقدميه، لم ينظر حتى لذلك الشخص فى الإتجاه المعاكس الذى كاد أن يصطدم به، فقط انتبه حين مر به بسرعة، فرفع عينه ليراه لكنه ارتبك وسقط أرضا بين الماء الأسن من أمطار امس، قمت بسرعة والضابط مصيلحى يسبقني، امسك كل منا بكتف وحاولنا رفعه على كرسي قريب قدمه آخر له، ظل الرجل ينظر لقدميه، مطأطأ الرأس ومحني، على وجهه خطوط العقود الخمسة، جمعنا ما سقط منه ، “اتفضل يا حاج” “اشكرك يا بني، ربنا ما يحوجك يا بني” “لا تقل هذا يا حاج، كلنا اولادك، أتسكن قريبا؟ ربما نوصلك لبيتك”، رفع عينه لعيني كأنما يتشبث بهما وشردت عيناه فوق كتفى حتى انى التفت لأرى من خلفي لكن لا أحد، نظرت له فكان نظره معلق بقدميه، انتصب وهو يقول “الحمد لله والشكر لله، استأذن وأشكرك يا بنى، يجب ان اذهب قبل ان ينام الأولاد”، وتحرك قبل حتى ان اعرض عليه أن أوصله، تابعته وهو يسلك نفس الطريق لنهاية الشارع ونسيت انني لازلت أقف، جلست مكانه على الكرسي الذى اصدر صوتا كالصراخ من خشبه الذي يكبرني في العمر. نعم المارة اليوم أبطأ من المعتاد، وكأن تمشيط شعرهم صار من المكروه فى الدين، كأن هناك ما يثقل كاهلهم، الجو أيضا أصبح أثقل من المعتاد، و المصابيح المتناثرة هنا وهناك على مداخل المحلات وعلى أعمدة الانارة تستحي أن تقوم بعملها كما كانت، خافتة ومقبضة، اكملت قهوتي التي احضرها إلى “سعد”، ولاحظت عم سراج يجلس خلفي فى نفس المكان ينظر لكفيه، كأن شيئا لم يحدث.
فى الطريق لمنزلي، أتحسس الأرض تحت قدمي مع كل خطوة، أتأنى حتى لا تلتوي قدمي فى شرخ هنا أو حفرة هناك، أتقدم فى الحارة الضيقة والتى يضيقها اكثر الظلام، أرى عم سيد مكانه رأسه واقع على صدره من التعب وأراه يتنفس بإنتظام، يلبس البلوفر الثقيل والبنطلون القماش المريح، سيظل هكذا حتى يأتي أبنه فى الصباح ليدير هو الدكان ويذهب عم سيد للمنزل ليكمل نومه، خطوت هنا وتفاديت بركة الماء الصغيرة، تجمعت تلك البرك فى كل مكان فى الحارة حتى اننى ظننتها جزء من مخطط الطريق الأصلى، تمطر السماء قليلا فيتجمع الماء فى برك فى أماكن محسوبة فى الحارة، ثم تتبخر فى الصباح ليحل محلها الوحل، تقدمت للعمارة التى اقطنها، منزل من ثلاثة ادوار، يمكنك ان تتجاوزه بسهولة ان لم تكن تقصده، يخطئه ساعي البريد طوال الوقت وينتهي الأمر بالبريد فى يد عم سيد، تجاوزت بركة الماء التي تجمعت أمام المنزل وكادت قدمي أن تنزلق وأسقط على ظهري، أمسكت بطرف الباب وعدلت من جسمي، تسارعت ضربات قلبي قليلا، وضعت كفى على قلبي أهدئه، وتجاوزت الباب لداخل العمارة، استنشقت رائحة العطن والتراب العالق فى الجو المألوفين، سعلت مرات بصوت خفيض حتى لا اوقظ جيراني، مددت يدي فى الظلام لأنير السلم، ضغطت مرة واثنين وثلاث لم يستجيب، حسنا ستكون رحلتى للأعلى اليوم تعتمد على ذاكرتي بتلك السلالم ومساعدة الدرابزين، فكرت لوهلة، لم حتى أهتم بالنور؟ أعلم هذا المنزل منذ كنت طفلا، ثلاثة ادوار ثلاث شقق كل منها غرفة وصالة، امسكت بجانب السلم وصعدت، أعرف كل ركن فى هذا المبنى، قمت بدهانه بنفسى، كل شقة وكل حائط، لم أتخيل ان ذلك التغير فى الإضاءة سيقدم لى اي قيمة؟ ربما لشخص لا يعرف ثنايا المكان، ربما النور مجرد رفيق يساندني صعودا وهبوطا أطلبه حين أشعر بالوحدة؟ ربما هو فقط رفيق الوحدة، نطلبه حين نشعر بها، يملأ المكان ويغمرنا، وينتشلنا من الظلام والوحدة، ربما هو الفارس الذى يطرد كل تلك الخيالات التى نقتنيها للظلام منذ الطفولة، لا يمكننى ان افكر فى شىء غير ملموس ونحتاجه كبشر أكثر من النور، حتى أصبح النور والظلام مرادفات للخير والشر، العدل والظلم، الحلال والحرام، وهو والحق يقال كان كريما معنا منذ عرفناه يغمرنا بالضوء والدفء كلما احتجناه، ولم يتوقف لثانية واحدة عن العطاء، حتى رفضت اضاءة السلم الجود علي اليوم بعطائها، لكن هذا خطأي، سأقوم بتغيير هذا المصباح فى الصباح، أما أنا الآن متعب، يجب ان استسلم للسرير بمجرد رؤياه، أخرجت مفاتيحي وفتحت باب شقتي، لم يبخل الباب بصوت تثاؤبه المعتاد، دخلت واغلقته ببطء فتثاءب مرة أخرى وتثائبت معه، فتحت النور فلم ينفتح، مرتين وثلاث، ياللحظ، أسمع موتور الثلاجة فى المطبخ وأنا انزع حذائي، إذن هى مشكلة النور وليست الكهرباء، أنا فقط تعس فقد مصباحين فى نفس اليوم، قمت برمي ملابسي فى الحمام وقمت بروتيني المسائي، إرتديت المنامة وفتحت التلفاز فى غرفة نومي، إستسلمت على السرير وارتخت عضلاتي وذهني معا، سمعت صوتا فى التلفاز تصف مشكلة ما فى الكهرباء وانه لا داعى للقلق، لا اعلم عم تتحدث لكن اهتمامي بم تقول لا يتعدى اهتمامي بتعلم اللغة الصينية فى هذة اللحظة، إستسلمت للنوم سريعا، واظلمت الحياة وانسحب النور من عقلي ليحل مكانه ظلام النوم.
صارعت الكثير من الوحوش وقتلتهم، واصبت الكثير من المحاربين الذين وضعهم حظهم التعس فى طريقي، وقتلت بعضهم وها هو تحت قدمي يطلب الرحمة، فى وقت آخر كنت لأنهي حياته لكن ليس الآن فهاتفى يصر على ان موعد استيقاذي الآن، ففتحت عيني وأوقفت صوته الذى يطرق اذناي بمطارق حديدة كل يوم صباحا، التفت بنصف عين للتلفاز الذى مازال حيآ منذ أمس، كانت نشرة الأخبار، وكانت الأغرب حتى ظننت انها خدعة ما أو احد برامج المقالب، فقد كان مذيع النشرة منكوش الرأس، كأنما خرج لتوه من معركة بالأيدي، يجلس فى استوديو مظلم الا من بعض الاضاءة الصفراء الضعيفة التى تأتى من مصباحين من المصابيح التى تعمل بالزيت والتى نراهم فى الأفلام القديمة قبل اختراع مصابيح الكهرباء، المصباحين على المنصة أمامه واحد بجانب كل ذراع، وينظر إلى رزمة من الورق فى يده، لم يرفع عينيه عنها طوال الوقت كان كمن لم ينم الليل وجهه يعلوه الإعياء، أتت نبرته متعبة ومملة، كأنه أستيقظ من الموت ليقوم بعمله، او انه كان على وشك الموت لكن عليه القيام بعمله، أنصت لما يقول: “هذا ويصرح مصدر مسئول فى وزارة الكهرباء ان العطل فى أحد مولدات الكهرباء المركزية قد تسبب فى مشكلة الكهرباء أمس، حيث ان مصابيح الكهرباء التى تعمل بتقنية أل إي دي لم تتحمل الجهد الكهربائى المنعكس مما أدي لتلف جميع المصابيح الموصلة على الشبكة أمس” أرتعشت يده قليلا ورفع عينه للكاميرا، ثم هربت لما بين يديه بسرعة، أرتبكت عينه قليلا بين الأسطر ثم أكمل “وتهيب الوزارة بالمواطنين عدم التسرع بشراء المصابيح الجديدة حتى لا نقوم بخلق أزمة، وستقوم الحكومة بتوفير المصابيح بتكلفة مخفضة يمكن صرفها ببطاقات التموين فى مراكز البيع”،صمت لوهلة ثم أرتبك صوته والتوت شفتيه كأنه على وشك ان يبتسم لكن عينيه كانتا تعكس انكساره وخوفه، نظر إلى الكاميرا لثانية واحدة ثم غطى وجهه بكفيه وأجهش بالبكاء، أنقطعت النشرة الأخبارية وانقطع معها نحيب المذيع ثم تلاها بعض إعلانات المصابيح الكهربائية الموفرة.
فى الشارع أترجل بغير هدف، أشاهد المارة والمحلات وأعب من الهواء وبعض عوادم السيارات فى رئتي، اليوم غائم ككل أيام الشتاء، تنذر السماء بالمطر والبرق والرعد ونهاية البشر، لم أهتم وأكملت فى طريقى بغير وجهة، رأيت الناس مكفهرة الوجه، تعلوا نظراتهم الخوف والترقب كأن هناك من يراقبها، يمشون ببطء وملل، ,فوق كل هذا كان المارة أقل بكثير مما اعتدت فى هذا الشارع الحيوي، كنت فى العادة اتخبط فى المارة واشق طريقي بصعوبة فى بعض الأيام، اليوم كان الشارع فارغا، حتى ان بعض المحلات أغلقت ابوابها، رأيت رجلا يشترى أحد الصحف من كشك صغير، لم تلتقي عيناه والبائع مطلقا، كانت عيناه مثبتتان على الصحيفة فى يده، نقد الرجل المال ولم ينتظر حتى الباقي، أخرين كانوا ينظرون حولهم ويعلوا وجههم علامة استفهام كتلك على وجهي، لا نعلم ما يحدث لكننا نشعره، الهواء الثقيل، والصمت والرؤوس الخفيضة، الخوف حولنا يمكننا الشعور به حتى ان لم يتكلم أحد عنه، تذكرت المصابيح وانعطفت يمينا لشارع جانبى أعلم ان به أحد محلات الأدوات الكهربائية، أراه من هنا “الحمد للأدوات الكهربائية”، لم يكن ليعنى أي شىء ان كان اسمه “الشكر” او “مكة” او “الحرمين” أو “الصفا” أصبحت تلك الأسماء مستهلكة لدرجة ان أصبحنا نتجاهل الأسم تماما ويتحول المحل إلى “محل الكهرباء يمين الناصية التالية لنا” او “محل الحاج فلان” حتى ان صاحب المحل نفسه ربما لا يتذكر انه سمى محله هذا الأسم، فرغنا الأسماء من معناها وقوتها بأستهلاكها فى غير مواضعها، وصلت للمحل ورأيت المتجمعين أمامه، عدد لا بأس به من البشر يمكنه ان يملأ اتوبيسين نقل عام حتى ان يجد الكمسارى نفسه صعوبة فى ايجاد موطىء لقدمه، يتزاحمون بشراسة، وأرى أحد سعيدي الحظ يخرج وفى يده مجموعة من علب المصابيح الكهربائية، تبادل النظرات مع بعض المتزاحمين واطلق عليه أحدهم نظره “ايها المحظوظ لو لم أكن مكبلا بالحضارة لكانت تلك المصابيح لي ولعائلتى” واضفى على النظرة بصقة فى الأرض بجانبه وانتبه لأنه كاد يفقد مكانه فى مقدمة الأتوبيس الخيالي، فأندفع قليلا يسترجع مكانته المزعومة، توقفت ودرت مرة أخرى من حيث أتيت، هناك دائما غدا لا داعى للمزاحمة، ثم ان الظلام ليس سيئا لتلك الدرجة، يمكنني العيش فى الظلام قليلا.
عدت فى الطريق لمنزلي بعد الترجل لساعتين، مررت بمحل المكوجي، والسوبر ماركت، وكشك صغير للدخان، ثم دكان عم سيد العتيق، أراه مغلق على غير العادة، ظننت ان ابنه الكبير سيكون هنا، السيدة نفيسة تترجل فى الاتجاه المقابل وتحاول ان تحفظ توازنها بصعوبة، لاحظتني من بعيد وأظنها تتجه لي، خمسينية تجد قدماها صعوبة فى رفع كل هذا الوزن بدون مساعدة الطبيب الدائمة، تتشح بالسواد وتمسك بكيس النقود والهاتف فى يدها وحين اقتربت لاحظت عينيها، هي تنظر لي لكنها تظهر ارهاق من قضى وقته فى البكاء خلال الساعات الماضية، توقفت أمامى وأمسكت بمرفقي وحاولت ان تلتقط انفاسها بصعوبة، اغمضت عينيها حتى تستطيع التركيز على التنفس، ثم بعد دقيقة أو أكثر نظرت لي بعينان يملؤهم الحزن “عم سيد، توفى اليوم”، ابتلعت ريقى وتقلص قلبي وشعرت بمعدتى تهبط فى صدري، أكملت: “أتي أبنه، انت تعرف علي!” “نعم أعرفه، ثم ماذا؟” “أوقظه كالعادة، انت تعلم انه يأتي صباحا ليدير المحل!” “نعم نعم أعلم” “أوقظه فى الصباح، قام سيد يا حبة عيني من النوم ورمى السلام ثم أخذ خطوتين ويقول ابنه انه ارتبك وانزلقت قدمه وسقط على جانب الرصيف هنا” أشارت للرصيف أمام الدكان، حيث أرى آثار السائل الأحمر القاني الذى سال على جانب الرصيف وأكمل طريقه للشارع يغمر التراب بلونه لون الحياة والموت فى آن واحد، أكملت “وأنا الآن فى طريقي لبيته الغسل الآن”، “واجب علينا، خذيني معكي”، تشبثت فى يدي والقت بنصف ثقلها علي حتى شعرت بذراعى على وشك التخلي عن جسدي، ثم أكملت ونحن نتجه لمنزله الذى هو ليس ببعيد، “كان محبوبا، أتعلم فى شبابه كانت كل فتيات الحارة تتمناه” أمنت على كلامها “طبعا” “كان وسيما ويلبس اللون الأزرق المشجر” “الأزرق؟!” “كان يحب اللون الأرزق وكانت الموضة المشجر” شعرت بشبح ابتسامة على شفتيها وسقطت الدموع من عينيها “الله يرحمه، فقدتـ فقدناه صغيرا” “الله يرحمه، أهدئي يا ست نفيسة، البقاء لله” نظرت لي وهي تخطو، وبصوت متهدج “ونعم بالله”، “يمين؟” “نعم، بجانب معمل المخلل”، نظرت على عدة امتار ورأيت المنزل، حيث عدة كراسي هناك وبعض الجيران هنا وهناك، أعرف بعضهم ولا أعرف البعض الآخر، السيدات فى الأعلى، تركت السيدة نفيسة تكمل طريقها للداخل ونظرت انا للعمارة، ثلاثة أدوار كحال معظم المنازل هنا، نظرت للمدخل المظلم، وخطوت.
بعد ان قدمت التعازي ل"علي” أعلن المغسل بدء الغسل، فسألنى “علي” أن انضم لهم، دخلت الغرفة التي كانت غرفة معيشة قبل ان يقوم المغسل بإعادة هيكلتها لتصلح للغسل، يضيئها مجموعة من الشموع الموزعة فى اركان الغرفة فى الوسط أرى مايشبه حوض استحمام كبير من الحديد مرفوع على اربعة ارجل لقرب وسطي، وكان جسد عم سيد الخالي من الحياة مرفوع داخل الحوض، عاري ومغطى بفوطة من الوسط تغطى حتى الركبة، يظهر جسده فى ضوء الشموع الخافت أبيض من المعتاد هزيل ومترهل، بارد حتى بمجرد النظر له، جسد توقف عن الحياة منذ ساعات، وتوقف الدم عن السريان فى عروقه، توقف عن التفكير والضحك والنوم والأكل والبكاء، توقف عن الاستمتاع والمعاناة، التف الحاضرين حول الحوض يشهدون الغسل فى مهابة وخشوع، حضرة الموت فى الغرفة ثقيلة، نشعر بها جميعا بمجرد الوقوف هنا بجانب عم سيد، يتقدم المغسل “نسمع الفاتحة يا أخواننا” ورفع يده ورفع الحاضرين يدهم قرابة وجوههم ومنهم من اغمض عينيه ببطء وتمتم الحاضرون بسورة الفاتحة للحظات مرت ثقيلة، انتهيت وانتهى الحاضرون بعد ان اشار المغسل بنهاية السورة “ولا الضالين”، رفعنا كفوفنا نمسح بها وجوهنا، توقفنا نراقب المغسل وهو يمسك بكوب كبير به ماء يأخذ منه ويمسح به جسد عم سيد المستسلم بدون ارادة منه، يفرك بطنه ببطء، وبين قدميه، ثم يمسح جانبه الأيمن من الكتف للذراع ثم الجانب والرجل اليمنى، ويفعل بالمثل للجانب الأيسر، يتحرك ببطىء وتأني كأنما يعرف كل حركة بالظبط، وحين انتهى، قام بجمع كل ماسقط منه من شعر وغيره في كيس حتي يدفن معه. نظر لمساعده “البشكير يا محمد”، فأحضر محمد البشكير من جانبه، وأمسك المغسل بالبشكير وأخذ يجفف جسد عم سيد بكل هدوء، وأعادها مجددا لمحمد، ثم أمسك بالكفن الأبيض من جانبه وبدأ في لفه حول جسد عم سيد من الكتف حتى القدم، ببطء وتأني، أية كدمة او أية شعرة فقدت من المغسل سيسأل عليها يوم القيامة، لذا يتبع المغسل كل وسائل الحيطة حتى ان يأتى بمساعده ليتابعه ويصحح له ان تاه عنه شىء ما، أخذ المغسل فى لف عم سيد حتى انتهى من لفه بالكفن، ظل وجه ورأس عم سيد مكشوفين للحاضرين ينظرون له وتدمع له عينهم، نظرت بطرف عيني ل"علي” رأيت عينيه تملؤهم الدموع ويمسك بمنديل بالقرب من أنفه وهو ثابت النظرات على ابيه الذى سنودعه الأرض بعد ساعات، صرفنا المغسل حتي ينهي عمله فأنصرفنا.
بعد دقائق طلبنا أحدهم بالأعلى لنقوم بنقل نعش عم سيد للمسجد لنصلى عليه صلاة العشاء، صعدنا السلم فى الظلام ببطء وفى الأعلى تجمع اربع رجال وثلاثة أخرين يحملون الشموع حولنا أحدهم تقدمنا على السلم ليضىء المكان بينما اربعتنا نحمل النعش على أكتافنا ونهبط السلالم ببطء نحمل الموت، تعتصرنا ذكرياتنا مع المتوفى ونفكر فى اليوم الذى سنصير فيه مكانه فى وقت ليس ببعيد، نهبط و نهبط، حتى وصلنا للعربة أمام مدخل المنزل، هبط النعش ببطء وحركناه علي ظهر العربة النقل وصعدنا اربعتنا بجانبه ورفع السائق الباب وأحكم اغلاقه، وتحرك للمسجد فى نهاية الشارع، أخذت الرحلة بضع دقائق، حركنا عم سيد رحمه الله من العربة لداخل المسجد فى نهاية مكان الصلاة، بجانب نعشين أخرين، سمعت أحدهم يتمتم ان واحد من النعشين لثلاثيني أنتحر اليوم بإلقاء نفسه من شقته بعد صراخ حاد، حركت رأسي يمينا و يسارا شفقة عليه وتقدمت لصلاة العشاء، كنت فى الصف الأخير، بعدها تراجعنا لنحرك عم سيد للأمام بجانب الإمام ثم صلينا عليه صلاة الجنازة، ودعونا له ثم نقلناه للسيارة مجددا، نظرت لعلي “أسف لك يا علي، لكن يجب ان اذهب الآن لعملي” “أشكرك يا عم أحمد، قمت بالواجب وزيادة” “البقاء لله شد حيلك، سأزورك غدا” “فى أي وقت يا عم أحمد”، هبطت من السيارة واشرت لهم بالسلام وتوجهت لمنزلي، أشعر بألم الموت فى قلبي وألم الفراق فى عقلي يضغطون علي روحي ويجبرون الدموع ان تسيل من مقلتي، مسحت عيني بيدي وأكملت الطريق للحارة المظلمة نحو منزلي، أتحسس الشقوق تحت قدمي وأقترب من المنزل الصغير، أتذكر البريد الذى كان يستقبله عم سيد حين يخطىء الساعي البناية، تحيته ليه كل صباح، الدكان الصغير ودخانه الذى يملأ الأثير حوله، فقدنا كل هذا، فقدت أحساس الطمأنينة الذى أشعر به فى رؤياه، أبتسامته التي تذكرني بأبي، أعتصر الحزن قلبي ونفرت الدموع من عيني وتباطأت خطواتي ونبضاتي، أستندت علي جانب باب البناية وخطوت بثقل للداخل، أرتقيت السلم بخطوات ثقيلة ثقل من لمس الموت لتوه وفتحت باب شقتي دخلت وأغلقته خلفي، خانتني قدماي وهبطت خلف الباب وانتحبت، كل الحزن والألم والحسرة خرجت فى صوت نحيبي وضعفي أمام ما رأيت من موت اليوم، نظرت خلال السقف أتخيل السماء والظلام يسودها واتسائل لم الموت لم الألم ولم الحسرة! صرخت وبكيت وضربت الأرض بقبضتاي كطفل لا يفهم العالم ولا يعرف حكمته، بكيت وبكيت وبكيت.
فى طريقى المعتاد للعمل، محطة القطار كالعادة مظلمة، انطفأ وهج المصابيح الباقية ككل المصابيح التى اعرفها، حتى تغييرها لم يكن ذو فائدة، قمت الأمس بشراء مجموعة من المصابيح لمنزلى ولإضائة السلم، بعد تركيبها تعمل كالجديدة - وهي كذلك - ثم تبدأ فى الخفوت ببطء كأن هناك يد ثقيلة مظلمة تطغى عليها وتطفئها، مررت بمراحل عديدة من عدم التصديق، للرفض للقبول بالواقع المظلم، هنا فى محطة القطار لم تكن مختلفة عن أي مكان أخر، وهي كانت من المهملات فى الأصل، فلم يتغير الكثير، انطفأت جميع المصابيح، وأظلمت تماما، ترى ظل القطار من بعيد يدخل المحطة ببطء، فى الغالب يتحسس السائق طريقة ايضا ويتخذ الحيطة، أحدهم فقد ما تبقى من عقله وأيمانه وقرر إنهاء حياته على خط القطار، كما حدث هذا الصباح فى إحدى محطات الخط الأول، يذكرون ان جمع اشلاؤه من على الخط الحديدي كانت مشكلة، وهو ليس بعمل أحد ما، فيتطوع أحدهم بالقيام بالأمر فى النهاية، توقف القطار أمامي ببطء ارتقيته وأتخذت أول كرسي فارغ ملاذا لي، انظر للباقين وأرى الجميع يلهو فى شاشة الهاتف الذكي المضيئة، حتى ان بعضهم يضىء الشاشة كبديل للمصابيح التى لم تعد تعمل داخل القطار، يتحرك القطار ببطء ثقيل بين المحطات، وأري أحد الباعة الجائلين او من هم على باب الله كما يطلقون على نفسهم، يبيع المصابيح، فقد أصبحت تجارة رائجة، “مصباح يا بيه مصباح يا فندم” يرفع واحدة ليريها للباقين، “تنير لك المنزل والمحل وبير السلم” يتقدم بيننا ويبدأ بتوزيع العلب كالنعناع على أرجلنا، “تحميك شر الظلام وتنير حياتك وحياة أولادك”، “تبعد عنك الشياطين والعفاريت وكل ذو شر”، “مرقية 7 مرات بالرقية الشرعية” “تحميك بنورها وبنور القرأن”، يصل لنهاية العربة ويقف قليل عل أحدهم يشتري منه يعود ويجمع العلب، يوقفه البعض ربما من لم يجرب بعد مصابيح جديدة او ممن لديهم الأمل أن تكون تلك مختلفة، ينقدونه ثمنها ويكمل طريقه لجمع الباقي قبل ان يصل للمحطة بعدها، تمر المحطات ببطء ويغلفنا الظلام فى العربة، مع كل محطة يتركنا احدهم كأنه ولد من جديد ليرى ضوء البدر فى الخارج، ويدخل أخر فى الظلام العربة الكئيب، كلما أطلت الجلوس هنا كلما شعرت به يضغط على روحك، كأنه حيوان نهم وبطىء الأكل، يبدأ بما حولك ويتغلغل تحت جلدك ببطىء يلتهم أعصابك ومن حولك، وتشعر بهم كأنهم يستسلمون له، يمكثون مكانهم ضحايا له مثلي، يتغلغل فى عظامك ببطء حتى يصل لروحك، لم يكن ذلك الظلام ما أعتدناه، كأنه غازي جديد أحتل أرضنا يظهر فقط فى المساء ويحتل كل مكان، حتى انه يأبى ان يترك لنا المكان لنجلس فى سلام، يضغط علينا من كل جانب كأن تلك المساحة التي يحتلها جسدي هي ملكه، وهو يحارب، ببطىء ثقيل ليحتلها هو، علي الأستسلام الآن فمحطتى القادمة، توقف وشعرت بقدماي ثقيلتين ادفع الظلام بجسدي لأقف، أنتظر ان ينفتح الباب بنفاذ صبر وأخرج بسرعة لألتقط أنفاسي فى النور الوحيد المتبقى لي، أنظر لأعلى، ذلك القمر الرمادي، كأنه من يعطيني الهواء، أستنشقه حتي يملأ رئتي وأخرجه زفيرا بسرعة.
أصل للشركة وفى مكتب الأمن لم يكن أحد هناك، التف حولي، لا أرى أي أثر ل"مسعد” حتى دراجته النارية لم تكن هنا، أتصلت بهاتفه لكنه لا يعمل، هبط قلبي وانقلب فم معدتى كما يحدث كلما أتوتر، أرتجلت للداخل يجب ان يكون أحدهم فى الداخل على الأقل، لكن لا أحد هنا، إن كان هناك مجموعة من اللصوص فى طريقهم للسطو على تلك الشركة لكان هذا يوم سعدهم، أتصلت برئيسي مدير أمن الشركة أخبره بالموقف، لكنه لم يرد هو الأخر، أين أختفى هؤلاء، أهو برنامج الكاميرا الخفية، أسيظهر الأستاذ ابراهيم نصر رحمه الله من خلف أحد الجدران ليبدد دهشتي وتوتري؟ ، جلست فى مكتب الأمن فى الخارج، أتصلت بكل فرد أمن على هاتفي، حتى رد أحدهم علي، كان سامح، هو شاب صغير بدأ من شهور قليلة العمل معنا، يعمل فى الصباح ككل المبتدئين فى العمل، يكره العمل فى المساء: “سامح، وصلت ولا أحد هنا” “ولا فى الداخل؟” “فارغ تماما” “أتصل بالريس” “فعلت ولم يرد أيضا”، “لا أعلم اذن، كل ما اعلمه اني سأستلم فى صباح الغد من صلاح بعد ان يستلم منك بعد منتصف الليل” عديم الفائدة، “حسنا شكرا، سأكون هنا ان عرفت اي جديد”، أخذت مكاني وتلاعبت الأفكار فى رأسي، من قد يعرف أي شىء هنا، انا هنا وحدي، والمكان مظلم، حتى السيارات القليلة المارة، تمر بدون نور، تزأر فقط قليلا بصوت الموتور المكتوم كأنها تشق الظلام ببطىء، لا يريد أحدهم ان يغامر بحفرة هنا او مطب هناك, ايمكن ان يكون اختطفه احدهم؟ وماذا عن رئيس الأمن اذن؟ اختطف أيضا؟ هناك ما لا أعرفه هنا وهو يطبق على رقبتي يخنقني ذلك الشعور خاصة فى الظلام.
مرت ساعات كان رفيقي فيها هاتفى وذلك السيل الذي لا ينتهي من الصور والنصوص من أناس لا أعرف معظمهم يدخلون شاشتي من أسفلها ويخرجون من اعلاها، فقدت قدرتى على الفهم وأصبح أصبعى يتحرك على الشاشة بطريقة ألية بحكم العادة، السيارات مازالت تتوالي من حين لأخر، يمرون بي وكأن وجودي شىء لا يعنيهم وهو كذلك، حتى أتت تلك السيارة التي تخلت عن الطريق وتوجهت للبوابة بتانى، تقلصت معدتي مجددا وتذكرت مكان السلاح، اقتربت السيارة اكثر وابطأت حتى وصلت أمام البوابة، توقفت تماما وانهار محركها، حاولت ان اتعرف على السائق الذى خرج منها واتجه نحوي، انتصبت ونفخت صدرى وحاولت ان ابدو اطول من ما أكون، عصرت الهاتف فى يدي، وهو يقترب، كان يلبس بذلة ويبدو مألوفا قليلا، تعرفت علي صوته حين بدأ بالكلام “أحمد؟ انا رائد عبد الرسول”، هو صاحب الشركة بنفسه، ارتخيت قليلا، ثم انتبهت مجددا وتكاثرت الأسئلة فى رأسى حتي لتكون قبيلة صغيرة، لم هو هنا، ماذا حدث، أهو حدث يستدعى ان يكون بنفسه هنا فى تلك الساعة؟ أهو بخصوص مسعد؟ ام مدير الأمن؟ أم كلاهما؟ مر بي لداخل الغرفة، وجلس يستريح قليل، قبل ان يرمي على ما جعل شعر رأسي يقف من الهول، “أحرق نفسه فى منزله أمس” أركن ذراعه على المكتب ورأسه خفيض وأكمل “اعلم ان جميعنا نمر بأزمة ما لكننى لم أكن اعرف انه سيستسلم بتلك الطريقة” كنت مرتبكأ، خصوصا انه من الصعب رؤية وجهه فى الظلام، عمن يتحدث؟ “سيدي أتتحدث عن مسعد؟” شعرت بإرتباكه هو فى رده “مسعد؟ مابه؟” “إذن مدير الأمن؟” “نعم، لكن مابمسعد؟” ازداد توتره وتوقف، منتظرا اجابتى “لم يكن هنا حين اتيت ولا يرد على هاتفه”، رفع هو هاتفه واتصل، ويبدو انه لا يثق في معرفتي بأمور الأتصالات الهاتفية، لكن ثقته فى عادت حين سمعت صوت الرسالة المسجلة من هاتفه، اتصل برقم أخر وهذه المرة كان الجانب الأخر أمراة سمعت صوتها الخفيض، وهما يتحدثان “مساء الخير، مسعد موجود؟ انا رائد من العمل” “أهو بخير؟” صمت قليلا “ان أحتاج أي شىء أرجو ان يتصل بي على هذا الهاتف”،حياها ثم أغلق الهاتف وشعرت به ينظر لي فى الظلام، صمت لوهلة قبل ان يلقى على بالخبر الثقيل الأخر “حادث على الدائري” “أهي تلك الدراجة العتيقة؟” “لا أحدهم فى سيارة مسرعة اصطدم به، تقول زوجته كسر فى الذراع وكدمات بسيطة، سيعود خلال أسابيع”، “من سيغطى مكانه؟” فكر قليلا ثم تحرك لدخل الشركة متوجها للمبنى الرئيسي “تعال معي”، مشيت بجانبه بخطوات سريعة، “سأقوم بتعيين مديرا جديدا للأمن، لكن حتي نجد أحدهم يتكون انت من يتولى تلك المسؤولية” ارتبكت قليل، صورة الرجل فى خيالى المتفحم ولون جلده الأسود بعد أحراق نفسه بدأت فى التكون فى ذهني، ابتلعت ريقي وحاولت تمالك نفسى “ما المطلوب مني بالضبط؟"، وصلنا لبوابة المبنى المظلم، “أريد منك ان تنظم المواعيد والفترات لك ولزملائك” ثم توقف والتف لي “انت تعرف الجدول وأعتقد ان معك كل ارقام زملائك، انا اثق بك”، دخل للمبنى فى الظلام كأن يعرف كل شبر فيه، مر على كل شباك فيه تأكد من اغلاقه، “من كان عليه فترة اليوم فى المبنى؟” توقفت قليلا ثم تذكرت “سليم”، سمعت تنهيدته “سليم لن يكون معنا مجددا” هل جن الرجل؟ “ماذا حدث له بعد ما حدث؟” “بعد ان أخذوه المستشفى، شخص بحالة متقدمة من الهذيان، أودعه الأطباء المصحة النفسية حتى يتعافى” التفت لي “اتعلم ما حدث له؟” ألم يحكي له أحد ما حدث؟ “كنت هنا وبدأ بالصراخ والبكاء ثم انهار فطلبت له الأسعاف” رأيته فى الظلام ينظر فى أسى للأرض وهو يهز رأسه، “نفقد من حولنا بسرعة تلك الأيام” “سيد رائد أتعلم ما يحدث؟” “ألا تعلم انت؟” نظرت له بإستغراب “الأيام السابقة كانت ثقيلة مليئة بالموت والظلام بالنسبة لي” أراه يتفحصني كأن يريد ان يعرف ان كنت اكذب، يبدو انه قرر انني اتكلم الحقيقة “يجب ان اعود للمنزل الأن، اغلق بوابة المبنى تلك وتأكد ان كل المداخل والمخارج مؤمنة قبل ان تكمل فترتك فى الخارج” “حسنا” أقام للتو بالهروب من سؤالي؟ ما الذي يحدث، قبل ان يدلف لسيارته سألته عن رقم هاتفه فأملاه لي، حييته ودلفت للداخل على الكرسي إياه، حيث قضيت الساعات المتبقية فى فترتي المسائية.
فى المنزل أفترش السرير محولآ إياه لسفرة، مفرش صغير يحمل علب الجبن والمربى وبعض البيض ورغيفين من العيش البلدي، اراهم فى الضوء الخافت ويتخلل أنفي رائحة البيض المقلي، أبدأ فى الأكل بينما انتبه للتلفزيون الذي تحول كل برنامج وكل نشرة أخبار فيه إلى ما يشبه عصور ماقبل اكتشاف المصباح الكهربائى، يتنحنح أحد منمقي الكلام وهو يستعد للإجابة على مضيفه، يحرك يده كثيرا وينقل القلم من يد للأخرى حريصا على إلا يلمس المصباح الزيتي بجانب، ينقل نظره بين المذيع وبين الكاميرا بسرعة، اكاد اجزم ان كان التلفزيون يقوم بنقل الرائحة لكان تعرقه ليملأ غرفة نومي، توتره يملأ الأثير وهو واضح لكل ذو عينين، سمعته بصوت متردد: “سيدي الفاضل تلك المشكلة ليست فقط فى وطننا، بل كل الدول تعانى مثلنا بالضبط، فلتأخذ مثلا-” قطع المذيع حبل أفكار ضيفه ليفاجئه “ولكن ان كان السبب غير مفهوم لم قامت الحكومة بتضليلنا، ألا يحق لنا ان نعرف؟” ينقل الضيف القلم لليد الأخري “سيدي يستدعى الأمن القومي كما تعلم ان نوخر ولو قليلا كشف المعلومات، لسلامة الجمهور، ثم ان لم يكن أحد يتوقع ان يكون الحدث على مستوى العالم بهذا الشكل” “هل تعرف الحكومة السبب الحقيقي؟” حرك الضيف يده وكاد يخبط المصباح بجانبه “أوكد لك ولكل مشاهدينا ان وزارة الكهرباء ليس لديها علم بالسبب الحقيقي وراء انطفاء جميع المصابيح، تواصلنا مع جميع الجهات حول العالم ولديهم نفس مالدينا،” انعقد حاجبا المذيع وحدت نبرته “سيدي هذا كلام خطير، اتريد ان تقول ان جميع المصابيح فى العالم انطفأت فى نفس الوقت ولا يعلم أحد السبب؟” “بالضبط !!!، أفترضنا فى البداية ان تكون مشكلة فى شبكة الكهرباء، ربما التيار المرتد كان زائدا لكن بعد فحص النقاط الأساسية فى الشبكة تأكدنا انه لا وجود لأي سبب علمي لهذا العطل، وبعد تواصلنا مع الأجهزة المعنية فى بعض الدول تأكدنا اننا جميعا لا نعرف السبب” فرد المقدم يده على المكتب وانحنى رأسه، و نظر لي من خلال الكاميرا، “أشكر ضيفي المتحدث الرسمي بأسم وزارة الكهرباء وأشكركم مستمعينا ونرجو منكم ان كان أحدكم يعرف معلومة عن انطفاء الأنوار يبادر بالاتصال بالرقم الذي سيظهر على الشاشة، وتصبحون على خير”.
سقطت قطعة العيش من يدي ونسيت فمي مفتوحا وظلت عيني معلقة بالشاشة لثواني بعد نهاية البرنامج، تقلصت أحشائى كعادتها، وطن الصفير فى أذني، اسمعه متزامنا مع ضربات قلبي، كنت أتخيل ان تلك ربما مشكلة ما وسيقومون بحلها لم يجل يخاطرى ان يكون اكثر من مجرد فساد محلى كعادتها الاشياء من حولنا ..لكن ان ترى فساد بحجم العالم فهو حتماً شعور مخيف، الظلام فى كل مكان من حولنا. العالم يعود لعصوره الاولى ,العالم باجمعه مظلم الان ولا أحد يعلم سبب المشكلة، أيعني هذا ان سنكمل حياتنا فى الظلام للأبد؟