يوفال نوح هراري فى كتابه 21 درس للقرن الواحد والعشرين تعرض لفكرة الهوية ودور الدين فى تكوينها فى عصرنا الحالي، بدأ بتفنيد دور الدين فى المجتمع وتطور دور رجل الدين من شفاء المريض وجلب المطر لتدعيم فكرة الهوية وترسيخ فكرة نحن وهم، وهي الفكرة اللى بتبني عليها الطبقة الحاكمة فى حكم العامة، وضرب مثال باليابان فى تطوير دين الشينتو ومزجه ببعض الافكار من الديانات والمعتقدات زي البوذية، ودور التطوير والترسيخ ده من الحكومة بجانب تطويرهم لتكنولوجيا الاسلحة خلال الحرب العالمية التانية، اللي نتج عنه عمليات الكاميكازي، اللى كانت بالنسبة ليوفال اول ظهور للصواريخ الموجهة، لكن الموجه فى الحالة دي كان الفرد الانتحارى اللى بيقود الطائرة بدل من الكمبيوتر، فكان المنتج ده مزيج من احدث تكنولوجيا الطيران + احدث تطوير للدين.
مصر فى حالتنا بتواجه نفس الموقف من ضغط من الخارج لتطوير الدين فيما يسمى ب"تجديد الخطاب الديني" وضغط من الداخل فى تدعيم قواعد الدين فى مواجهة الافكار المستحدثة نتيجة العولمة ودخول الانترنت كل بيت وموبايل، وزحف الأفكار الليبرالية من خلال الميديا الامريكية. الضغط فى الجهتين بيدفع الحكومة وقيادات الأزهر بإتخاذ مركز متوسط مائل للتحفظ لأسباب هيتم ذكرها لاحقا، المركز المتوسط بيظهر فى الاحتفاظ بالشعائر الدينية الظاهرية، زي خطبة الجمعة، لكن تحديد الموضوعات للبعد عن اي موضوع قد يسبب حساسية او إضرار بمصالح الدولة، أفكار زي الجهاد وغيرها بيتم شيطنتها والصاقها بالجماعات المتطرفة، وهم مش محتاجين اي الصاق فى الحقيقة قايمين بالواجب واكتر، أفكار اخري مثل المساواة بين الرجل والمرأة بيتم الحفاظ على التوسط فيها مع محاولة البعد عن التناقض المصاحب للتوسط، فبيتم التسويق لفكرة المساواة بين الجنسين، لكن بيتم غض البصر عن قوانين الزواج والميراث.
محاولة الحفاظ على الواجهة الدينية والخلفية الليبرالية هي محاولة لعدم تكرار الماضى، الاتجاه لليسار بيفرز افكار تميل للتحرر المطلق ومراجعة رأس المال وتوازن القوى بين المجتمع والدولة, وبينتج عنه فقدان للقبضة المحكمة على الاقتصاد والسياسة والدين. والأتجاه اليميني ينتج الجماعات ذات الصبغة الدينية ولفظ المجتمع لأفكار زي السوق الحر والشركات العاملة فى الفن والترفيه ويثبط من النزعة الاستهلاكية اللي الإقتصاد بيحتاجها لتقليل الادخار وتسريع دورة رأس المال، غير فتح الباب للدول السباقة فى الالتزام الديني لإتخاذ دور القائد الديني بدلا من الأزهر، زي ما حصل فى السبعينات والثمانينات.
لذا كان لابد من المزيج بين الهوية الدينية، وانتقاء الافكار الليبرالية، فى موقع متوسط يميل للمحافظة، الموقف بيتيح مرونة فى الحكم على الموضوعات وتغيير الاتجاه فى بعض الاوقات، وبيتيح للدولة الظهور بمظهر التدين فى المناسبات الدينية، والظهور بمظهر التحرر فى وجه المستثمرين والمجتمع الدولي، يتيح للدولة الحفاظ على علاقات ذات اساس ديني مع الدول العربية المسلمة، والحفاظ على علاقات ذات اساس رأسمالى مع دول اوروبية مثل المانيا وفرنسا والولايات المتحدة، يتيح أيضا اتخاذ موقف متناقض مع دولة اسرائيل، التسويق فى الداخل للمجتمع بأنها عدو وغرس فكرة العدائية لها فى المجتمع وداخل المؤسسات الرسمية، وايضا غرس فكرة حرية التجارة بين الدولتين والتطبيع وحرية التنقل وابرام الاتفاقيات طويلة الأمد مثل منطقة نيوم السياحية\اقتصادية.
فى النهاية اختارت مصر كدولة موقف متوسط، لكن تأثير الموقف على الأجيال الجديدة متناقض ومضطرب يتذبذب بين التدين والتحرر، ويجعل الهوية غير واضحة، لا يمكن ان تضع لها اسم من كلمة واحدة، لايمكن ان تطلق عليها هوية إسلامية، لأن المجتمع يظهر قدر من التحرر لا يتسق مع الدوجما الإسلامية، ولا يمكن ان تطلق عليه مجتمع ليبرالي لأن معظم القوانين تتبع الشريعة الاسلامية بما يخالف مبادئ الليبرالية، فلا يسمح بزواج المثليين مثلا، ولا يمكن ان ترجع لإلصاق الهوية الفرعونية كما يحب انصار الدولة على مواقع السوشيال ميديا ان يقرروا مؤخرا، فنجد الأجيال الجديدة تطري على الميديا التي تظهر المشاعر المثلية، لكنه ينفر من فكرة ان يسن قانون للسماح لهم بالزواج، تجد ان جزء من تدريب العساكر يؤكد على غرس الكراهية للعدو الصهيوني, لكن ايضا تجد تسهيلات للتبادل الاقتصادي فى الدولتين، تجد اتجاه الدولة لإنشاء المساجد فى المدن الجديدة لإبراز الجانب الديني، لكن ايضا تجد التضييق على كل من يلتزم بالشعائر الدينية، فى موقف متناقض، لذا تجد الأجيال الجديدة لها توجهات متناقضة محاولة منها المسكينة التحرك فى المجتمع متفادية ما قد يسبب حساسية للدولة فيما يشبه محاولة احدهم اليائسة تفادي الخطو فى المكان الخطأ بعد ان اكتشف وجوده فى حقل ألغام، حين مولده.